كان الصباح ساكناً على غير العادة، وكأن البيت نفسه يعرف أن اليوم هو الأخير بين جدرانه. دخلت المطبخ بخطوات مترددة، أعددت قهوتي بهدوء، وكأنني أمارس طقساً مقدساً للمرة الأخيرة. رائحة البن غمرت المكان سريعاً، تماماً كما فعلت في مئات الصباحات السابقة، لكنها هذه المرة بدت أثقل، أشد التصاقاً بالجدران.
جلست في ركني المعتاد قرب النافذة. بقرب الطاولة الخشبية التي شاركتني صمتي وأحاديثي الداخلية أعواماً طويلة، بدت وكأنها تئن تحت ثقل الوداع. وضعت الفنجان أمامي، تأملته قليلاً قبل أن أرتشف منه. لم يكن مجرد قهوة، بل كان اختزالاً لذكريات كثيرة، لحياة كاملة.
في تلك اللحظة، تدفقت الصور في ذهني: أمسيات شتوية جلست فيها أراقب المطر من النافذة، صباحات مشرقة امتلأت بالخطط والأحلام، لحظات صمت طويلة لم يخففها سوى دفء الفنجان بين يدي. كل زاوية في هذا البيت كانت تحكي قصة، وكل جدار يحفظ سراً من أسراري….
ارتشفت القهوة ببطء، وكأنني أؤجل النهاية. كان الطعم مألوفاً، لكنه بدا مختلفاً، مشبعاً بالحنين. شعرت أنني لا أحتسي قهوتي، بل أبتلع ذكرياتي واحدة تلو الأخرى.
حين انتهى الفنجان، بقيت أنظر إليه طويلاً. أدركت أن البيت ليس مجرد جدران وسقف، بل صندوق ممتلئ باللحظات التي صنعتني….
والانتقال إلى بيت جديد قد يمنحني بداية أخرى، لكنه لن يمحو أثر هذا المكان في داخلي.
قمت من مكاني، ألقيت نظرة أخيرة على الغرفة. مددت يدي ولمست الجدار بخفة، كما لو كنت أودع صديقة قديمة. ثم خرجت، والفنجان الفارغ ما زال على الطاولة، شاهداً على آخر لحظة بيني وبين بيتٍ أحببته بصدق فهو ليس مجرد بيت ، بل انه حياتي بأكملها .
بقلمي : شفاء الوهاس